لم يعد سراً الحديث عن الدور التركي في طرابلس خصوصاً وشمال لبنان عموماً، المعلومات عن هذا الأمر بات يتم التداول بها على نطاق واسع، سواء على المستوى الأمني أو على المستوى السياسي، بدليل ما كان قد أدلى به وزير الداخلية والبلديات محمد فهمي، بطريقة غير مباشرة، حول هذا الموضوع، أو ما أعلن عنه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل في حديثه التلفزيوني الأخير، بالنسبة إلى ما جرى النقاش فيه في إجتماع للمجلس الأعلى للدفاع.
ما تقدّم، لا ينفصل عمّا كشفته بعض التحقيقات، التي رافقت التحركات في الشارع في الفترة الماضية، لناحية الإشارة إلى دور أنقرة في دعم بعض المجموعات الفاعلة على هذا الصعيد، إلا أنّ ما يزيد من خطورة الأمر، في حال صحّته، هو القدرة على إستغلال أيّ تطور على الساحة التي يتم الحديث عنها، أي طرابلس والشمال، في حين أن لبنان سيكون، في الأيام المقبلة، على موعد مع الحكم الذي سيصدر عن المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان.
لدى بعض الأوساط السياسية الطرابلسيّة، تأكيد على أن ما يُحكى عنه على هذا الأمر مضخم، وبالتالي هو قد يكون في سياق السعي إلى إستهداف بعض القوى والشخصيات من هذا الباب، لكن في المقابل هناك من يعتبر أنّ الدور التركي كان قد بدأ بالتوسع منذ ما يقارب ثلاث سنوات، لكن اليوم بدأت تظهر مفاعيله على أرض الواقع، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى التنبه إليه، وهو يعود، بشكل أساسي، إلى غياب أو تراجع الداعم الإقليمي المعتاد عن الساحة، أي المملكة العربية السعودية.
وقد يكون أخطر ما يمكن الإشارة إليه على هذا الصعيد، هو ربط بعض الأوساط ما يتم الحديث عنه حول دور تركي في لبنان، بما كان قد أدلى به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل أيام، عن أنه بفضل تعاظم تأثير المخابرات الخارجية، بدأت بلاده تحتل مكانتها في كافة المحافل كقوة إقليمية وعالمية، الأمر الذي يدفع إلى وضع الدور التركي تحت المجهر، من الناحيتين الأمنية والسياسية، بحسب ما تؤكد هذه الأوساط.
في هذا السياق، يشير أستاذ القانون والعلاقات الدولية التركي سمير صالحة، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن أنقرة منذ عقود، كغيرها من اللاعبين الإقليميين والدوليين، تولي أهمية بالغة للملف اللبناني لأكثر من سبب: تاريخي، ديني، جغرافي، ثقافي، سياسي، ويشير إلى أن المصالح الإقتصادية والتجارية أيضاً لعبت دوراً مهماً في تحديد سياسة بلاده تجاه لبنان، وبالتالي بقدر ما هناك عواصم إقليمية ودولية تريد أن تحمي مصالحها وسياساتها، فإن تركيا أيضاً تريد أن تتواجد في هذه البقعة الإستراتيجية بثقلها السياسي والإقتصادي وحماية خطوط التواصل مع لبنان.
من وجهة نظر صالحة، هناك سياسة تركية جديدة في التعامل مع الملف اللبناني، مرتبطة بسياسة حكومة حزب "العدالة والتنمية"، في العقد الماضي، القائمة على مراجعة سياساتها الإقليمية، ولذلك كان الإنفتاح التركي الواسع على لبنان بإتجاه زيادة الدعم إلى جميع اللبنانيين دون أي تمييز، ورفع التأشيرات، والدعم من خلال التنسيق مع القوات الدولية الموجودة في جنوب لبنان، ودعم المؤسسات الخيرية اللبنانية، ويلفت إلى أن هذه الرسائل تؤكد إهتمام تركيا بمتابعة مصالحها في هذا البلد.
ويلفت إلى أن البعض يريد شن حملة ضد تركيا ومصالحها في لبنان، عبر توجيه الإتهامات والحديث عن دور متزايد، بإتجاه التغطية أو تجاهل ما تقوم به العديد من العواصم الإقليمية والدولية، ويسأل: "ما الذي كان يفعله وزير الخارجية الفرنسي في لبنان جون إيف لودريان وكيف تتحرك السياسات العربية والخليجية في لبنان؟"، ويضيف: "الدور الإيراني في لبنان معروف أيضاً، وبالتالي الإتهامات بغالبيتها ذات طابع سياسي ومحاولات لتقديم خدمات إلى بعض اللاعبين الإقليميين".
من جانبه، يشير الخبير اللبناني في الشؤون التركية محمد نور الدين، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن لبنان هو احدى ساحات الصراع داخل العالم الإسلامي السني بين المحورين التركي-القطري والسعودي-الاماراتي-المصري، وبالتالي هو كغيره من هذه الساحات موضع تجاذب وصراع لا بل قد يكون الأكثر عرضة لتأثيرات هذا الصراع، كون الساحة السنية اللبنانية منقسمة إلى عدد كبير من الولاءات والإتجاهات.
وفي حين يلفت نور الدين إلى أن الغالبية العظمى من الساحة السنّية في لبنان تميل إلى جانب الرياض والقاهرة، يؤكّد أن تركيا لها نفوذ من خلال مجموعة من الركائر، أولها المواطنون اللبنانيون من أصل تركي، رغم أن عددهم محدودا ومحصورون في بعض القرى في الشمال، بالإضافة إلى الجمهور السني المعارض لتوجهات السعودية ومصر ولا ينتمي إلى القومية العربية، من دون تجاهل الجمعيات المدنية التي تتحرك وتلقى دعماً، على مستوى تقديم المساعدات الإجتماعية على الأقل، خصوصاً أنها نشطت منذ بداية الأزمة الحالية، كغيرها من من الجمعيات، بمعزل عما إذا كان هناك من دور لأنقرة وراء تحركها أم لا.
بالإضافة إلى ذلك، يلفت نور الدين إلى أن لتركيا علاقات مع العديد من الجامعات في لبنان، وقوى وشخصيات سياسية متعددة، منها الجماعة الإسلامية التي تعتبر فرعاً من فروع جماعة "الإخوان المسلمين"، الذي يلتقي من كل النواحي مع سياسات حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في أنقرة، بالرغم من محاولات الجماعة عدم الظهور بأنها جزءاً من الصراع بين تركيا والسعودية في لبنان، وبالتالي لتركيا ركائز لبناء النفوذ والتأثير خاصة أنها تهتم بالتراث العثماني الموجود خارج أراضيها.
من ناحية أخرى، يعتبر صالحة أن البعض يريد القيام بعمليات تصفية حسابات مع تركيا على الأراضي اللبنانية، الأمر الذي يؤكد أنه لن ينفع لأن أنقرة لن تدخل في مواجهة من هذا النوع، وهي تواصل إتصالاتها مع القوى والقيادات اللبنانية، السياسية والدينية، ويلفت إلى أن من يريد أن ينتقد السياسة التركية تجاه لبنان عليه أن يثبت أنه يقف عن حق إلى جانب الشعب اللبناني، ويرى أن هناك عواصم إقليمية منزعجة من دور أنقرة تقود حملات التحريض بأدوات مختلفة.
في هذا الإطار، لا يعتقد صالحة أن بلاده تريد أن تقود ورقة المسلمين السنة في لبنان، نظراً إلى أنها منفتحة على جميع القوى السياسية دون أي تفرقة أو تمييز، ويستغرب كيف يتم وصف الدعم التركي بالتوغل، بينما لدى الحديث عن دور فرنسا أو إيران أو أميركا أو بعض الدول الخليجية يكون الموضوع دعم وتضامن، ويشير إلى أن سبب إنزعاج بعض اللاعبين الإقليميين من الدور التركي يعود إلى أنهم بدأوا يشعرون بأن مصالحهم في لبنان تتراجع، نتيجة سياساتهم الخاطئة، ويرى أن عليهم مراجعة هذه السياسات أو الإنسحاب من هذا الملف، لأن الشعب اللبناني يحتاج إلى دعم حقيقي من الخارج، ومن يقوم بذلك سيكسب تعاطفه.
بالنسبة إلى مستقبل الدور التركي في لبنان، في ظل علامات الإستفهام التي ترسم حوله، يعتبر نور الدين إلى أن هذا النفوذ سيزداد بقدر ما تنقسم الساحة السنية على نفسها، ويتراجع بقدر ما تلتف هذه الساحة حول شخصية محددة، إلا أنه يرى أن موضوع قدرتها على لعب دور مؤثر أو تعديل التوازنات القائمة يحتاج إلى متابعة في المرحلة المقبلة، بحسب ما يظهر على أرض الواقع من تطورات، في حين لا يتوقع صالحة أن تنجح محاولة التشويه التي تتعرض لها بلاده، ويضيف: "منذ نحو 10 سنوات تقود تركيا خطة مراجهة سياساتها في لبنان، ويبدو أنها نجحت إلى حد كبير".